جاء «السيسى» فملأ الساحة وشغل الأمريكان الذين رأوا فيه «المارد» الذى ظهر فى التوقيت الخطأ، ليفسد خططهم فى المنطقة.
من يتابع ردود الفعل الأمريكية الرسمية منذ سقوط محمد مرسى يُدرك أن ثورة «30 يونيو» كانت صدمة للأمريكان من زاويتين، أولاهما أنها ثورة شعبية عارمة لم يتوقعها الأمريكان، أطاحت بحكم الإخوان، والثانية أنهم توهموا أن «السيسى» بحكم كونه أول وزير دفاع مصرى يدرس بالولايات المتحدة سيكون «رجُلهم» فى القاهرة، فاكتشفوا أن السيسى «عقبة» وليس «كوبرى».
الإعلام الأمريكى رصد بانبهار الصعود الصاروخى لشعبيته.. وأدرك أنه «رئيس مصر القادم» لو أراد.. وسيبقى «رقماً صعباً»
رجُل الإخوان
صورة «السيسى» لدى واشنطن مرت بعدة مراحل سريعة منذ ظهوره على مسرح الأحداث فى أغسطس 2012. فى البداية كانت هناك قناعة بأنه «رجل الإخوان» بين صفوف القوات المسلحة المصرية. هذه القناعة عبّر عنها بوضوح الباحث الأمريكى الشهير «دانيال بايبس» فى نوفمبر 2012، عندما كتب فى مجلة «ناشيونال انتريست» تفسيره لنجاح الرئيس المعزول «الضعيف» فى إقالة المشير حسين طنطاوى «القوى» فى أغسطس 2012، وبرر ذلك بأن «نفوذ ضباط الجيش المتعاطفين مع الإخوان أكبر مما تخيل الجميع. وهم إما أعضاء بالجماعة أو متعاطفون معها، والجماعة تنكر عضوية وزير الدفاع الحالى عبدالفتاح السيسى لها، لكن أحد قادتها أقرّ بأنه ينتمى إلى أسرة الجماعة غير الرسمية».
وذهب «بايبس» فى تحليله إلى أبعد من ذلك، مؤكداً أن «السيسى» أجهض، حسب زعمه، محاولة لانقلاب كان يخطط له «طنطاوى» فى 24 أغسطس 2012، وقال الباحث نصاً: «استطاع السيسى كرئيس للاستخبارات العسكرية الحصول على معلومات حول انقلاب 24 أغسطس، وتعقب المسئولين العسكريين الموالين لطنطاوى وفصلهم، وهناك شواهد أخرى تؤكد كلامى، فطارق الزمر القيادى الجهادى وأحد مؤيدى مرسى، وهو ضابط سابق بالقوات المسلحة، اعترف بأن اختيار السيسى كان يهدف لإجهاض انقلاب عسكرى على مرسى، كما أن اللواء عباس مخيمر الذى كان مسئولاً عن تطهير القوات المسلحة من الإخوان والجماعات الإسلامية الأخرى، كان متحالفاً مع الإخوان إن لم يكن عضواً بها».
زادت قناعة الأمريكان بـ«إخوانية السيسى» عندما عثروا على ورقة بحثية كتبها «السيسى» عام 2006 أثناء التحاقه بكلية الحرب التابعة للجيش الأمريكى بعنوان «الديمقراطية فى الشرق الأوسط»، وهو البحث الذى وصفه مُحاضر فى كلية الدراسات البحرية العليا، وهو البروفيسور روبرت سبرينجبورج فى مقال نُشر فى «فورين آفيرز» بالقول: «يبدو كوثيقة أعدتها جماعة الإخوان». الطريف أن البعض ظل متمسكاً بقناعته بـ«إخوانية السيسى» حتى بعد عزل «مرسى»، وذلك فى خلط واضح بين تديّن وزير الدفاع واعتناق أفكار الجماعة.
رجُل الأمريكان
مع تصاعد الأزمة السياسية بين «مرسى» ومعارضيه، وظهور بوادر أولية على إمكانية تدخل الجيش فى السياسة مرة أخرى، لم يكن الأمريكان -شأنهم فى ذلك شأن «مرسى» نفسه- قلقين من «السيسى»، وتولدت لديهم قناعة أن «الجنرال الهادئ» لن يحرك دباباته باتجاه قصر الاتحادية، وسيأخذ بنصيحة واشنطن التى تكررت على مسامعه يومياً، وفحواها: «لا تقترب من مرسى».
كان هذا «العشم الزائد» يرجع لاعتبارين أساسيين، أولهما «النفوذ الخشن» الذى يملكه الأمريكان على المؤسسة العسكرية، التى تتلقى سنوياً 1.3 مليار دولار، ويعتقد بعض المسئولين الأمريكيين أنه دون هذا المبلغ لن تطير الطائرات ولن تتحرك الدبابات المصرية، على حد تعبير أحد الجنرالات الأمريكان، بل ويكفى لفرض الإملاءات الأمريكية خصوصاً فى أوقات الأزمات والضعف التى تمر بها الدولة المصرية الآن، وثانيهما «النفوذ الناعم» الذى يرجع إلى كون «السيسى» هو أول وزير دفاع مصرى يدرس فى الولايات المتحدة، وليس فى روسيا. وهو أمر علق عليه الأمريكان أملاً كبيراً، وعبّر عنه جون ماكراى، أحد الضباط الأمريكيين المطلعين على ملف العلاقات العسكرية بين القاهرة وواشنطن، بقوله فى مجلة «نيوزويك» فى 27 أغسطس الماضى: «إن دراسة الفريق السيسى بكلية الحرب الأمريكية تعنى زمالته للعديد من الجنرالات الذين يخدمون حالياً فى الجيش الأمريكى، وهذا يعطى انطباعاً عن طبيعة المناقشات بين البلدين ومحاولات واشنطن للتأثير على قراراته».
الأمريكيون ظنوا أن دراسته فى بنسلفانيا والمعونات الأمريكية ستجعله «رجُل واشنطن» فى القاهرة.. ووصفوا بحثه بأنه «وثيقة أعدها الإخوان»
لكن ما حدث أن «السيسى» لم يكن فقط أقل تعاوناً من «مبارك» و«طنطاوى» بل هو خشن أحياناً معهم، وأبقى الإدارة الأمريكية «فى الظلام» بشأن ما يحدث فى مصر من تطورات، رافضاً الكشف عن نواياه، حتى فوجئت بقرار عزل «مرسى» فى 3 يوليو 2013، ضارباً بنصائح واشنطن عرض الحائط. وعبّر تقرير صحيفة «وول ستريت» عن حجم الصدمة والإحباط الأمريكى من تجاهل «السيسى» لـ8 مكالمات مع وزير الدفاع الأمريكى تشاك هيجل، مليئة بالنصائح والتحذيرات أيضاً، وتابعت: «إن الإطاحة بمرسى لم تكن العلامة الأولى على محدودية النفوذ الأمريكى على العسكريين المصريين، ففى فبراير عام 2011 عندما أُطيح بمبارك، طلب رئيس هيئة الأركان المشتركة الأدميرال مايك مولين وقتها من الضباط الأمريكيين سرعة التواصل مع نظرائهم المصريين لتنسيق المواقف، لكنه فوجئ بفتور ردود الفعل من جانب الضباط المصريين، وهو ما عبّر عنه مسئول أمريكى بقوله: إن مولين أدرك أن المنح والبعثات الأمريكية لا تستطيع أن تشترى حجم الاتصالات التى تحتاجها واشنطن فى أوقات الأزمات مع مصر».
«عبدالناصر» جديد
ارتبطت صورة «السيسى» فى أذهان معظم الأمريكان بصورة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. لم يخلُ تحليل واحد تقريباً من الإشارة للمقاربة بين «السيسى» و«عبدالناصر». و«عبدالناصر» عند الغرب يعنى القومية العربية وقمع الإسلاميين وديكتاتورية تحظى بقاعدة شعبية كبيرة والطموح لتنمية شاملة والاستقلال عن الغرب.
وكتبت «نيويورك تايمز» أن «هناك مخاوف فى الغرب من أن يكون السيسى هو النسخة العصرية لعبدالناصر»، وفى 19 أغسطس تساءل الباحث جالك ويليامز: «هل يتحول السيسى الذى يبدو أنه يرفض لعب الكرة مع واشنطن ولندن إلى ناصر جديد؟»، وأجاب فى مدونته قائلاً: «بالنسبة للأمريكان لا يمكن أن يُسمح لمصر تحت أى ظرف أن تصبح دولة مستقلة معادية لمصالحها، خصوصاً فى قناة السويس وسيناء، لكن للأسف لا يبدو أن السيسى يستمع لهذه المخاوف».
ونقلت مجلة «فورين بوليسى» عن عضو مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى ستيف كوك قوله: إن «السيسى ليس عبدالناصر، بل نسيج مختلف»، لكنه عاد فى مقال مطول ليؤكد أن أوجه الشبه بين الرجلين ستهدد استقرار مصر وتعيدها إلى أجواء الستينات من جديد.
وفى مؤتمر عُقد فى معهد «ماكين» الأمريكى فى 26 سبتمبر الماضى حضره السيناتور جون ماكين، قال مسئول صفحات الرأى فى صحيفة «واشنطن بوست» جاكسون ديل: إن «فى مصر يُصنع جمال عبدالناصر جديد، وهو الجنرال السيسى الذى وضع المصريون صورته إلى جوار صورة عبدالناصر، والكل يعلم ما يمثله نظام ناصر من (فاشية) لم تكن مقتصرة على مصر، لكن امتدت إلى العديد من الدول العربية، ومن ثم فلا يمكن أن تكون الإجابة فى مصر هى الجيش»، وأكد أن «العسكريين فى مصر أخطر على إسرائيل من محمد مرسى والإخوان»، مستشهداً بما أنجزه «مرسى» فى التوصل لاتفاق تهدئة بين «حماس» وإسرائيل.
رجل «حويط»
يركز كثير من التقارير الأمريكية على وصف «السيسى» بـ«الرجل الحويط» و«الغامض» الذى يتكلم قليلاً ويُخفى الكثير عنهم، وذلك بعد أن فاجأهم -رغم الاتصالات المستمرة- بعزل «مرسى» فى 3 يوليو الماضى. وهو الأمر الذى لمسه «الإخوان» المؤمنون بأن «السيسى» لم يخدع «مرسى» فقط لكن خدّره وأعطاه «بنج»، حسب وصف أحد أعضاء مكتب الإرشاد. ووفقاً لما كشفت عنه صحيفة «نيويورك تايمز» فإن «مرسى ظل حتى ساعاته الأخيرة فى الحكم مقتنعاً بأن السيسى لن يتدخل، وكان آخر من فهم تحركات الجيش بين من حوله من مستشارين وقياديين إخوان، والدائرة القريبة من مرسى لم تبدأ فى الشعور بالقلق إلا بداية من 21 يونيو، عندما أصدر الجنرال السيسى بياناً يحذر من احتمال تدخل الجيش إذا عجزت القوى السياسية عن الوصول لحل فيما بينها، لكن مرسى نفسه لم يشعر بالقلق واستدعى السيسى للاستفسار عن معنى بيانه، فأكد له وزير الدفاع أن البيان هدفه إرضاء بعض من رجاله داخل الجيش، وأنه لم يكن أكثر من محاولة لامتصاص غضبهم، الأمر الذى بدد شكوك الرئيس فى احتمال انقلاب وشيك ضده».
هذا الغموض يدعمه مظهر «السيسى» بنظارته الشمسية السوداء أدى لفضول كبير من مختلف وسائل الإعلام الغربية التى حاولت التحرى عن حاضر الرجل وماضيه، فأفردت مجلة «نيوزويك» غلاف عددها فى 16 أغسطس الماضى لـ«الجنرال الهادئ» وركزت -فى تقريرها المطول عن نشأته- على هذا «الغموض»، موضحة أن «صور السيسى أكثر انتشاراً فى شوارع القاهرة من الهدايا التذكارية لـ(أبوالهول)، فصوره تحدّق إليك من فوق الجدران والمقاهى والنوافذ والمبانى الحكومية، والمصريون يرفعون لافتة (هذا هو الرجل الذى نثق فيه)، والبعض يطلق عليه (نسر العرب)، ومع ذلك فالرجل الذى يقارنه المصريون بجمال عبدالناصر لا يُعرف عنه شىء، وقلة من الناس يعرفون شيئاً عن عائلته، فهو نادراً ما يتحدث للصحفيين، وأصدقاؤه المقربون يترددون فى التحدث للصحافة، وغالباً ما يتصلون للاعتذار إذا تسرعوا بالموافقة على الحديث مع أحد الصحفيين».
«الفريق» خدر «مرسى» حتى الساعات الأخيرة من حكمه.. وعندما سأله «المعزول» عن بيان 21 يونيو «التحذيرى» أكد أنه لإرضاء بعض رجاله فى القوات المسلحة
رجل مصر القوى
تبديداً للغموض الذى غلّف شخصية «السيسى» حاولت مجلة «ذا ويك» الأمريكية أن تعرّف القارئ الأمريكى بمن وصفته بـ«رجل مصر القوى الجديد»، فكتبت فى الأول من سبتمبر الماضى مقالاً بتوقيع «مجلس تحرير المجلة» جاء فى صورة سؤال وجواب. وكان السؤال الأول: ما مدى شعبية «السيسى»؟ وأجابت «المجلة» بأنها «واسعة جداً، فصوره فى كل أرجاء مصر، مع عبارات مثل (هذا من نثق به) و(المنقذ) و(المخلص)»، أما السؤال الثانى فكان عن سبب تعيين «مرسى» لـ«السيسى»، وذكرت المجلة أن «الفريق كان الضابط الأبرز لخلافة المشير حسين طنطاوى، وطوال عهد حسنى مبارك كان السيسى نجماً صاعداً داخل الجيش».
وشددت المجلة على أن «مرسى» اختار «السيسى» لأنه «معروف بالتدين»، فيما كان السؤال الثالث عن سبب خلع «السيسى» لـ«مرسى»، وأكدت المجلة أنه، بحسب ما قال «السيسى» من قبل، فإن «الشعب المصرى هو من ثار عليه لأسباب كثيرة، منها: تجاوز محاولته فرض دستور لا يحظى برضا الشعب، وإطلاق الجهاديين فى مصر، خصوصاً فى سيناء».
أما السؤال الرابع فكان: هل يريد «السيسى» إرساء الديمقراطية فى مصر؟ وجاءت إجابة المجلة بـ«نعم، وعلى النمط الإسلامى الذى يختلف عن الديمقراطية التى تُمارَس فى الولايات المتحدة أو أوروبا». وجاء السؤال الخامس عن صورة الولايات المتحدة لدى «السيسى»، فذكرت المجلة أنه يعتبرها مثل كثير من المصريين داعمة للإخوان وأسهمت فى تخريب الإرادة الشعبية، ويتهمها بـ«إدارة ظهرها للمصريين».
تصاعد شعبية الجنرال
بعد تجاوز صدمة سقوط «مرسى»، بدأ الإعلام الأمريكى يحاول تفسير ظاهرة الصعود الصاروخى فى شعبية الجنرال ومحاولة فهم أسباب «عشق» المصريين لـ«السيسى»، فأصدرت وكالة «أسوشييتد برس» عدة تقارير متلاحقة فحواها أن «اشتياق المصريين للأمن وإحباطهم من الإخوان يمهد الطريق لـ(السيسى رئيساً). وقالت الوكالة إن إطلاق مجموعة من النشطاء السياسيين حملة توقيعات لحث السيسى على الترشح للرئاسة يؤكد اشتياق المصريين إلى رجل قوى لقيادة مصر بعد نحو 3 سنوات من الفوضى فى البلاد.
وحذت «وول ستريت جورنال» حذو «أسوشييتد برس» وأكدت فى عدة تقارير كان آخرها فى 10 سبتمبر أن «المصريين يتطلعون لترشح السيسى للرئاسة أملاً فى إنهاء الفوضى ورغبة منهم فى استعادة الاستقرار والنظام، وسط الفوضى والعنف والضائقة الاقتصادية التى عانت منها أكبر دولة عربية فى الفترة الماضية». وخصصت شبكة «CBS» التليفزيونية الأمريكية، مؤخراً، تقريراً قالت فيه إن «السيسى أصبح أكثر الشخصيات شعبية بين المصريين الذين يعتبره كثير منهم منقذاً للبلاد خلصها من رئيس مكروه بشدة». وتابع التقرير أن «شعبية وزير الدفاع تحولت إلى بيزنس مربح للباعة الجائلين الذين يربحون جيداً من أى سلعة عليها وجه السيسى»، وقال مراسل الشبكة الأمريكية: «رأيت بنفسى عراك الناس فى الشارع للحصول على صور بطلهم». ومع ارتفاع شعبيته تثور أسئلة حول طموحاته السياسية، وهل سيصبح جنرال العرب القوى القادم؟ أجابت صحيفة «فاينانشيال تايمز» عن هذا السؤال فى تقرير لها فى 24 أغسطس الماضى أكدت فيه أن «السيسى الجنرال المتدين» قادر على الفوز بسهولة بالرئاسة إذا أراد. وأشارت إلى أن المصريين يرون فيه المخلّص ويلقبونه بـ«قلب الأسد» و«قاهر الإرهاب»، لكن الأمريكان ينتقدونه والإخوان يكرهونه.
بمرور الوقت تغيرت صورة «السيسى» لدى منتقديه داخل الإدارة من «جنرال مستبد طامع فى السلطة» إلى «رجل مصر القوى» الذى إما أن يحكم مصر أو أنه على الأقل سيظل رقماً صعباً، وبالتالى لا سبيل لإغضابه، خصوصاً بعد أن أدرك صنّاع القرار أن «مرسى» لن يعود و«السيسى» لن يتراجع مهما كانت ضغوط الولايات المتحدة. هذا التوجه عبّر عنه مؤخراً بوضوح وزير الخارجية الأمريكى الأسبق كولن باول فى حديث لقناة «سى بى إس» الإخبارية الأمريكية قائلاً إنه على الولايات المتحدة أن تتعامل مع الوضع فى مصر وسوريا بشكل عقلانى أكثر.
الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق